حتى لا ننسى الحقائق

نقاط سريعة للتذكير ببعض الحقائق التاريخية.

نوفمبر 30, -0001 - 00:00
نوفمبر 30, -0001 - 00:00
 2

لوحظ أنه في كثير من الأحيان نجد بعض الشباب يندفع بشدة ضد كل ما هو من الإسلام دون تعقل ولا روية!

وقد أردت في هذا الموضوع إلقاء الضوء على بعض النقاط سريعا فنقول:

أولا/ كان النصارى المصريون مضطهدين قبل دخول العرب مصر، وكانوا يسامون العذاب من جهة المحتلين الرومان الذين كانوا يدينون بالنصرانية أيضا لكنهم على مذهب يخالف مذهب نصارى مصر، حتى أننا لنجد في التاريخ أن البطريرك المصري للأقباط الأرثوذكس كان هاربا من بطش أولئك الرومان، فلما فتح الله مصر على يد العرب أزالوا هذا البطش وحجموا الرومان وطردوهم، ثم أرسل سيدنا عمرو بن العاص إلى البطريرك بنيامين ليقدم في سلام وليدير شؤون بابويته ورعيته، فالفضل بعد الله يرجع للعرب الفاتحين، الذين لولاهم لظل النصارى مصر يرزأون تحت بطش الرومان ردحا من الزمان لا بعلمه إلا الله.

ثانيا/ ألغى العرب الفاتحون الاوائل تلك الضرائب الباهظة التي كان قد فرضها الرومان المحتلون على المصريين، وأعادوا لهم كنائسهم وأموالهم وأراضيهم.

ثالثا/ نظام الجزية الذي يتهكم بعض الناس عليه ويتندرون به كان نظاما راقيا بامتياز، فالجزية لم تكن إذلالا ومهانة بل هي ضريبة يدفعها الرجل الغني القادر، وهذه الضريبة إنما هي في مقابل حماية العرب المسلمين له وعدم مطالبتهم لغير المسلم آنذاك بالاشتراك في القتال.

وقد طبق المسلمون ذلك مع أهل الشام حين فتحوها فقد تجمعت جحافل الروم لاحتلال الشام مرة أخرى ووجد المسلمون أن الأمر كبير وأنهم لن يقدروا على حماية أولئك النصارى الذين أخذوا الجزية منهم، فأمر سيدنا أبوعبيدة رجاله بأن يعيدوا ما أخذوه من الجزية لأصحابه وبعث برسالة يقول فيها: "لقد سمعتم بتجهيز هرقل لنا، وقد اشترطتم علينا أن نحميكم، وإنا لا نقدر على ذلك، ونحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم" كما ورد في الخراج لأبي يوسف.

وقد ورد مثله عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد فقد قال لأهل الحيرة : " فإن منعناكم- يعني منعنا عدوكم من أذاكم- فلنا الجزية وإلا فلا"

رابعا/ الجزية كانت تؤخذ من الرجال الأغنياء أو القادرين على الكسب، أما الرجال الفقراء العاجزون عن الكسب فلم تكن الجزية تؤخذ منهم بل كانوا يعطون معونات من الدولة من بيت مال المسلمين، ولم تكن مفروضة لإرهاق غير المسلمين والتنكيل بهم فقد ورد كما في الأموال لأبي عبيد أن عمر بن الخطاب أتاه أحد الولاة بمال كثير من الجزية فاستجوبه عمر قائلا: "إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ فقال له الوالي: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا، فقال عمر: بلا سوط ولا نوط؟ فقال الوالي: نعم، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني"

خامسا/ لم تكن الجزية تؤخذ من النساء والأطفال والعجزة والعميان والمرضى المزمنين، بل كما ورد في أحكام أهل الذمة لابن القيم أنه لو حاصر المسلمون في المعركة حصنا أو مكانا فلم يجدوا فيه إلا النساء وليس لهن رجال يحمونهن فإنه لا تؤخذ من هذه النساء الجزية ولا يصرن سبايا بل يعقد لهن عقد الذمة بلا مقابل ويجب على المسلمين حمايتهن!

سابعا/ من مات من أهل الذمة وعليه جزية لم يدفعها فإنها تسقط عنه بموته ولا تفرض ضرائب على تركته ولا يتم تحصيل هذه الجزية المتراكمة من تركته كما ورد في الخراج لأبي يوسف.

ثامنا/ من كان غنيا من أهل الذمة ثم افتقر، وكذلك من كان فقيرا فإنه لا جزية عليه بل يعيله بيت مال المسلمين فقد ورد في عقد خالد بن الوليد لأهل الحيرة : "أيما شيخ ضعف عن العمل أو اصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" كما في الخراج لأبي يوسف

سادسا/ الجزية ليست اختراعا إسلاميا بل هي معروفة قبل الإسلام وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس مرارا وتكرارا فنجد نبي الله داود بحسب رواية العهد القديم قد أخذ الجزية من أعدائه وأذلهم واستعبدهم : "وبعد ذلك تغلب داود على الفلسطيين وأذلهم، وأخذ السلطة من أيديهم، تغلب على الموآبيين ومدد أسراهم على الأرض وقاسهم بالحبل، فقتل منهم ثلثين وأبقى على الثلث، وصار الموآبيون عبيدا له يؤدون الجزية"

سابعا/ يحلو لبعض الناس أن يصنع تفرقة بين كلمة " مسيحي" و " نصراني" فيقولون: المسيحي هو المعروف اليوم أم النصراني فهو مهرطق كان موجودا فيما مضى وانقرض فكره!

وهذه التفرقة باطلة فقد نبه البطريرك الراحل الأنبا شنودة الثالث على أنه لا فرق بين المسيحي والنصراني، كما نبه على ذلك أيضا القس بولس جورج، وكلاهما له مقطع مصور مبثوث في ثنايا الشبكة العنكبوتية.

ثامنا/ عاش المسلمون العرب الفاتحون مع نصارى مصر في بلد واحد متناغمين في وئام وسلام، وشيدت الكنائس المصرية وعمرت في مصر بعد الفتح الإسلامي، ولم يثبت أن المسلمين كانوا يتتبعون كنائس النصارى لهدمها، بل بقيت هذه الكنائس حتى اليوم شاهدة على التسامح الديني الذي حظيت به مصر منذ الفتح الإسلامي.

تاسعا/ كلمة "الذمي" أو "عقد الذمة" ليست سبة ولا عيبا بل هي ترسيخ إسلامي لقيمة المواطنة التي عرفها الإسلام ورسخها منذ الوهلة الاولى في المجتمع المدني في المدينة المنورة التي كان يحكمها رسول الله بما أوحى الله به إليه من الشرع الشريف، ففي الوقت الذي كان لا يعترف العالم فيه بشيء اسمه الخلاف الديني، فمن خالف ملة الحاكم فإنه ينفى أو يقتل أو يسجن في أحسن الأحوال..عرف المسلمون عقد الذمة والذي يعني منح الأمان على النفس والمال والأسرة لغير المسلم المسالم، ويضمن الحاكم المسلم هذا الحق لغير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام.

وبفضل هذا العقد ظل غير المسلمين في بلاد الإسلام يتناسلون أجيالا إلى اليوم دون اضطهاد أو إكراه على ترك الدين، وبقيت دور عبادتهم شاهدة على ذلك التسامح الإسلامي، وها هي أجيال غير المسلمين حتى اليوم باقية ببقاء أجدادهم الذين نعموا بالأمن والاستقرار والحرية في عهد الحكم الإسلامي منذ فتح العرب البلاد وطردوا الرومان وحتى اليوم.

فليست الذمة كلمة مشينة بل هي ضمانة الامان باسم الله ورسوله، وهي المعنى الذي نريده اليوم بالمواطنة، فالوطن الذي يحكمه شرع الله ودينه الإسلام هو ذلك الوطن الذي يعيش مواطنون جنبا إلى جنب في أمان واستقرار، فالقاطنون في ديار الإسلام هم مواطنوها مسلمون كانوا أم غير مسلمين.

أرجو أن نترك النعرات الطائفية جانبا ولا داعي للانتقاص والإساءة فهما خلقان ذميمان. وعلينا أن نبحث عما يرسخ قيم التعايش بدلا من زرع بذور الاحتقان من خلال اختلاق افكار مغلوطة لم يعرفها الإسلام الحنيف.

ما هو رد فعلك؟

like

dislike

love

funny

angry

sad

wow

دكتور/ عبدالله رشدى باحث في شؤون الأديان والمذاهب بالأزهر الشريف، والمتحدث الإعلامي السابق باسم وزارة الأوقاف.