التصوف بين العلماء والأدعياء
تصوف السلف وتمصوف الخلف
كانت أطروحتي في درجة الماچستير بعنوان: "الجانب العقدي في الفكر الصوفي-دراسة تحليلية" وقد حصلت عليها بتقدير "امتياز" ولله الحمد، وكان من دواعي سروري أن ناقشني فيها أحد أعضاء هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف حفظه الله ورعاه.
وكان هذا بعد حصولي على الليسانس من كلية الدعوة الإسلامية وكذلك الليسانس من كلية الشريعة الإسلامية؛ كلتا الكُليتين في جامعة الأزهر الشريف.
في مرحلة الدراسة الجامعية مر بنا التعرف على مناهج التصوف ومدارسه، وقبل الحديث عن ذلك أود أن أشير إلى تغاير عبارات العلماء وتعدد مسالكهم في تعريف التصوف، إلا أنها كلها تدور في فلك واحد ولا تكاد تخرج عنه.
فالتصوف هو منهج للزهد يقصد بالسلوك فيه التقرب إلى الله تعالى وفق نصوص الكتاب والسنة.
وهنا نحن لا نتحدث عن البدع والخرافات التي تكاثرت في العصور المتأخرة ولا نتحدث عن أولئك الذين جعلوا التصوف عبارات ملغزة وحصروه في شطحات منفرة ولا نتحدث عن أولئك الذين جعلوا التصوف شيئا هميونيا لا أُطُرَ له ولا الذين جعلوه ملابس خضراء ومسابح حول المعاصم والأعناق ولا الذين تراهم يتراقصون كالسكارى دون وقار وأدب فحولوا الذكر إلى رقصات مضحكة ولا الذين تراهم يذكرون الله على أنغام الموسيقى ولا الذين تراهم يركعون ويسجدون للأعتاب ويتمسحون بالقبور ويطوفون حولها ولا الذين جعلوا التصوف عبارة عن موالد ومشايخ تدعي الكرامات وبعضهم لا تراه في المساجد مواظبا على صلاة الجماعة.
لا أتحدث عن كل ذلك، فكل ذلك نشهد الله أن التصوف منه بريء وأن الذي رأيناه في الكتب ليس هذا الذي سردته منذ قليل في الأسطر السابقة، بل إن مشايخ التصوف الحق هم أول الناس تحذيرا من ذلك.
ولن أذهب بعيدا بل سأكتفي ببعض إشارات سيدي الشعراني رحمه الله الذي ينقل عن سيدنا الجنيد قوله: "كتابنا هذا سيد الكتب وأجمعها-يعني القرآن- وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقها، وطريقتنا-يعني طريق أهل التصوف-مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة ويفهم معانيهما لا يصح الاقتداء به"
هكذا كانت كلمات الجنيد ثم عقب عليها الشعراني قائلا: "وهذا الخُلُقُ قد صار غريبا في فقراء هذا الزمان، فصار أحدهم يجتمع بمن ليس له قدم في الطريق، ويتلقف منه كلمات في البقاء والفناء والشطح مما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ثم يلبس له جبة ويرخي له عذبة، ثم يسافر إلى بلاد الروم مثلا ويظهر الصمت والجوع، فيطلب له مرتبا أو مسموحا، ويتوسل في ذلك بالوزراء والأُمَراءِ فربما رتبوا له شيئا فيصير يأكله حراما في بطنه لكونه أخذه بنوع تلبيس على الولاة واعتقادهم فيه الصلاح"
ثم يقص الشعراني قصة عجيبة تصف واقعنا اليوم فيقول : "..وقد دخل علي شخص منهم فأخذ يخوض بغير علم ولا ذوق في الفناء والبقاء ومعه جماعة يعتقدونه، فواظبني أياما فقلت له يوما: أخبرني عن شروط الوضوء والصلاة ماهي؟ فقال لي: أنا ما قرأت في العلم شيئا، فقلت له يا أخي: تصحيح العبادات على ظاهر الكتاب والسنة أمر واجب بالإجماع، ومن لم يفرق بين الواجب والمندوب ولا بين المحرم والمكروه، فهو جاهل والجاهل لا يجوز الاقتداء به لا في طريق الظاهر ولا في طريق الباطن، فخرس ولم يرد جوابا، ثم انقطع عني من ذلك اليوم"
ثم ينبري الشعراني مؤكدا على سنية التصوف ورادا على منتقديه ممن لا دراية عندهم بحقيقة التصوف نظرا لكثرة الأخلاط والأدعياء فيقول رحمه الله: "فكذب والله وافترى من يقول إن طريق التصوف لم يأت بها كتاب ولا سنة، وقوله ذلك من أكبر العلامات الدالة على كثرة جهله، فإن حقيقة الصوفي عند القوم هو عالم عمل بعلمه على وجه الإخلاص لا غير، وغاية ما يطلبه القوم من تلامذتهم..أن يصير أحدهم يأتي بالعبادات على الوجه الذي يشبه ماكان عليه سلفهم الصالح لاغير"
هكذا يكون التصوف، هو علم بالشريعة ووقوف على حقيقتها أولا ثم اتجاه للزهد والكلام في أسرار القلوب، أما التجاسر على الكلام في التصوف والارتسام بزي أهله مع غلبة جهل بالشريعة أو مع تحقير لأقوال الأئمة إن خالفت الهوى فتلك وضاعة لا علقة لها بالذوق الصوفي وجهالة لا تصدر عن من له أدنى مسكة من علم وسماجة لا تحتملها النفوس الرائقة.
الصوفي متشرع يسير وراء المذاهب ويعظم أئمتها ولا يتطاول على الأئمة ويرميهم بالخطأ والجفاء..الصوفي لا يداهن في عقائد الملة..بل يجهر بها ويذود عنها ولا تأخذه في سبيل إظهارها لومة لائم..الصوفي لا يجامل على حساب دينه..الصوفي ليس جلف الطبع ذلق اللسان مع مخالفيه من أهل القبلة أو من غيرهم..الصوفي متشرع قد صفت لله نفسه.
ما هو رد فعلك؟